مساءلة مؤرّخ أعاد النظر بتاريخ إسرائيل
“المؤرّخون الجدد”.. هم الذين أعادوا النظر بشكل نقدي في تاريخ إسرائيل والصهيونية، وإيلان بابي هو أحد أبرز أعضاء هذه الجماعة، الذي تحوّل إلى صوت بارز وقوي في الصراع العربي الإسرائيلي، في ظلّ ما يحدث في غزة، ويخلخل عواصم العالم الغربي يوماً بعد يوم.
يقول بابي: “أغلب اليهود لا يؤمنون بوجود إله، لكنّهم يؤمنون أنه وعدهم بأرض فلسطين”.. أو بالأحرى امتلاك أرض ليست لهم.
قبل أيام ذكر المؤرّخ اليهودي Ilan Pappé في تدوينة له على صفحته في فيسبوك، أنه تمّ استجوابه من قِبل مكتب التحقيقات الفيدرالي، فور وصوله إلى مطار ديترويت.
بدأ التضييق على بابي منذ أن نشر كتابه “التطهير العرقي في فلسطين عام 1948”. يعدّ هذا الكتاب أساس اشتغال إيلان بابي التاريخي. وكانت (دار فايارد) نشرت ترجمته الفرنسية عام 2008، لكنها سحبته من كاتالوج بيع كُتبها، بعد السابع من أكتوبر، بدعوى انتهاء العقد مع دار النشر الأصلية (وان وورلد).
بعد ذلك تكفّلت (دار لافابريك) بإعادة نشر هذه الترجمة، وهي دار أسسها إريك هازان، ذي الأصول اليهودية (موقع الكتب actualittés).
صاحب كتاب “فلسطين.. أكبر سجن على وجه الأرض”، يقول عن عام النكبة: “كثيرون منهم كانوا أصدقاء ورفاق، والعديد منهم مجهولون بالنسبة لي”.
قام بابي من موقعه كمؤرّخ بقراءة جديدة وتأويل مختلف، يحدوه في ذلك الأمل على “إنهاء الكارثة كما نأمل جميعاً، ما سيسمح لنا بالعيش في سلام ووئام في فلسطين”.
مساءلة إيلان بابي أمر مفاجئ إلى حد ما، بالنسبة لأكاديمي إسرائيلي معترف بريادته العلمية في البحث الرصين، ويكفي الاطلاع على دراساته العلمية، المعضدة بالأرشيف والوثائق والأرقام الخارجة عن نطاق السردية الشائعة في إسرائيل، حول تكوين هذا الكيان ومسوّغ وجوده، إلى جانب حواراته العديدة في الموضوع نفسه، كي تتم الإحاطة بالظروف والأسباب التي قد تدعو لتوقيفه.
فالصراع الدائر حالياً، أعاد إلى الأذهان الأسئلة الكبرى التي يتم تجنّبها. تلك الكفيلة وحدها بإحلال السلام الفعلي، إذا ما تمّت الإجابة عنها بشكل لا يلوي ذراع الحقائق، ولا يتعسّف على المعطيات التاريخية الواضحة، أو بحسب تصوّرات مسبقة.
لقد كان إيلان بابي واضح المسعى والاشتغال منذ البداية. أي أن مسعاه هو البحث عن الحقيقة الأخرى، الوحيدة التي ستخلق مناخاً عادلاً للجميع في هذا الجزء من الكرة الأرضية.
النكبة.. معاني وأرقام
يتناول إيلان بابي كيفية تقرير وتنفيذ عملية تهجير أكثر من 800 ألف شخص، أكثر من نصف السكان الأصليين في فلسطين، وتدمير 531 قرية، وإفراغ 11 حيّاً من سكانها.
هو بذلك يناقض ما يقوله التاريخ الرسمي الإسرائيلي، “بأن الأمر يتعلق بترحيل إرادي كبير لمئات الآلاف من الفلسطينيين، الذين قرّروا مغادرة منازلهم وقراهم مؤقتاً، وترك الأرض للجيوش العربية الغازية القادمة، لتدمير الدولة اليهودية الوليدة”.
يكتب بابي ذلك اعتماداً على اقتباسات مأخوذة من وثائق الجيش والدولة الإسرائيليين، وكذلك مذكرات أول رئيس هو دافيد بن غوريون، ومن أرشيفات جماعات مثل “الهاغاناه”، فضلاً عن أسماء كبيرة لعبت كلها دوراً حاسماً في تأسيس إسرائيل.
صراع المصطلحات
إلى جانب ذلك، كان على إيلان بابي أن يعيد النظر في التعاريف السائدة، والمصطلحات المتداولة التي تعكس الرؤية الغالبة داخل إسرائيل.
فاللغة كما أكدتها الدراسات اللسانية المختلفة، مُعدّة كي يتم التلاعب بها وتأويلها، وإدراك ذلك ضروري، وهذا ما يبدو جلياً في “فلسطين”، الكتاب المشترك الذي نشره بابي برفقة عالم اللسانيات الشهير نعوم تشومسكي، صدر عام 2016، عن “دار إيكوسوسيتي”، في مونتريال.
في النص الافتتاحي، يدعو إيلان بابي بشكل حاسم “إلى تبديل التوافقات السابقة والمفردات المتداولة، وكتابة قاموس جديد للعقيدة السلمية، أو قاموس جديد لحركة التضامن مع فلسطين”، كما جاء في تقرير عن الكتاب نشرته مجلة أبحاث دولية (عدد 106، 2016) وأعاد نشره الموقع العلمي (persée.fr) .
بالنسبة للمؤلف، لم يعد الأمر يتعلق بـ “صراع عادي بين طرفين متحاربين، بل هو نتيجة استراتيجية سياسية استعمارية منظّمة، ومدعومة بأيديولوجية واضحة”، يقصد بها بابي “الصهيونية المسؤولة عن هذا الوضع المحدود والمغلق، الأمر الذي يؤدي إلى فشل كل محاولات السلام، المرافقة لحرب لم تتوقف منذ سبعة عقود، إذ إن الأفكار الأصل لم يتم تحديد معانيها من جديد”.
مشروع بديل ..”أرض لشعبين”
السياسة المبنية على أيديولوجيا السيطرة على الأرض، عن طريق الإعمار أو التعمير، أي إحلال شعب في جغرافية ما، مسكونة من قِبل شعب آخر، كما حدث في أماكن أخرى في التاريخ المعاصر، مآلها الانهيار والفشل.
يقول بابي في مقال نشره بتاريخ 1 فبراير 2024، وتمّت ترجمته إلى الفرنسية من قِبل موقع (contretemps.eu):
“لا توجد البدائل في أوروبا أو الغرب، بل في اتباع نماذج بإمكانها أن تساعدنا على تشييد نوع مجتمعي مختلف تماماً، يحترم الهويات الجماعية وكذلك الحقوق الفردية، ويتمّ تشييده من الألف إلى الياء كنوع جديد، يستفيد من أخطاء إنهاء الاستعمار في أجزاء كثيرة من العالم، بما في ذلك العالم العربي وأفريقيا”يضيف: “من المأمول أن يؤدي ذلك إلى إيجاد كيان سياسي، سيكون له تأثير كبير وإيجابي على العالم العربي ككل”.
هكذا يبدو من قراءة كتب ومقالات إيلان بابي التاريخية، وصداها على كل ما يمتّ بصلة للصراع الفلسطيني الإسرائيلي، مدى الاختلاف الكبير عن الخلفيات الفكرية العامة الشائعة داخل إسرائيل، وخصوصاً عندما لا يتورّع عن وصف ما يجري بحديث يسمي الأشياء بمسمياتها، فتتجلى صادمة لهذه الجهة، ومنصفة للآخر المقابل.
سكّة التاريخ
مساءلة إيلان بابي أمر مفاجئ إلى حد ما، بالنسبة لأكاديمي إسرائيلي معترف بريادته العلمية في البحث الرصين، ويكفي الاطلاع على دراساته العلمية، المعضدة بالأرشيف والوثائق والأرقام الخارجة عن نطاق السردية الشائعة في إسرائيل، حول تكوين هذا الكيان ومسوّغ وجوده، إلى جانب حواراته العديدة في الموضوع نفسه، كي تتم الإحاطة بالظروف والأسباب التي قد تدعو لتوقيفه.
فالصراع الدائر حالياً، أعاد إلى الأذهان الأسئلة الكبرى التي يتم تجنّبها. تلك الكفيلة وحدها بإحلال السلام الفعلي، إذا ما تمّت الإجابة عنها بشكل لا يلوي ذراع الحقائق، ولا يتعسّف على المعطيات التاريخية الواضحة، أو بحسب تصوّرات مسبقة.
لقد كان إيلان بابي واضح المسعى والاشتغال منذ البداية. أي أن مسعاه هو البحث عن الحقيقة الأخرى، الوحيدة التي ستخلق مناخاً عادلاً للجميع في هذا الجزء من الكرة الأرضية.